- السيرة / ٠3سيرة الصحابة / ٠1الخلفاء الراشدين
- /
- ٠4علي بن أبي طالب
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
من أسرار المؤمن :
أيها الأخوة, مع الدرس السابع من سيرة سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه, أظن أن هذا هو الدرس الرابع الذي يتضمن أقوال الإمام علي كرم الله وجهه، وهذا الإمام الجليل له كلمات بمثابة الحكم، والحكم كما قلت في درسٍ سابق: تجارب إنسانية مكثفة في كلمات، فكيف إذا كان هذا الحكيم صحابياً جليلاً وهو رابع الخلفاء الراشدين، وقد التقى النبيَّ عليه الصلاة والسلام منذ نعومة أظفاره؟ .
يقول هذا الإمام الجليل: " من أشرف أعمال الكريم غفلته عما يعلم ", الإنسان الخفيف كلُّ شيءٍ يعلمه يبوح به، قد يوقع بين الناس العداوة والبغضاء، قد يفضح الأسرار، قد يكشف الأستار، لكن الكريم ولو أنه يعلّم الكثير الكثير عن بعض الأشخاص، وعن بعضِ الجماعاتِ لكن غفلّته عما يعلّم أحد دلائل نبلّه وشرفه، لذلك المؤمن يتخلق بأخلاق الله، ومن أخلاق الله أنه ستير ، والستير صيغة مبالغة من الستر، أي يستر ألوف الملايين من عباده، أو يستر ستراً كأن هذا العبد لم يفعل شيئاً، إما أنّ هذا الستر فيه نوعيةٌ عاليةٌ جداً، أو أن فيه تكراراً كثيراً جداً .
الإنسان حينما يفضح أمرًا، وحينما يبوح بالسر، وحينما يُشيع بعض الأغلاط بين الناس قد يشعر بلذة، لكن لو أنه سكت, وكتم هذا السر, وظهر كأنه لا يعلّم شيئاً عندئذٍ يتصل بالله عزَّ وجل، والسعادة التي تأتيه من اتصاله بربه أبلغ بكثير من تلك المتعة الفارغة التي تأتيه من بوح السر، لأنّ طبع الإنسان يحب أن يكون متميزاً حتى في الحديث، لكن التكليف في ستر الأسرار .
يا أيها الأخوة الكرام, آيةٌ واحدة لو فهمناها فهماً كما أراد الله لخزنا ألسنتنا، يقول الله عزَّ وجل:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
ما ذنبه؟ ما فعل شيئاً، ما تكلم ولا كلمة، لكنه يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، يحب لهؤلاء المؤمنين أن يكونوا ممزقين، يحب لهؤلاء المؤمنين أن يكون شيعاً وأحزاباً وفرقاً وطوائف, قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾
إياك أن تتبع عورة أخيك :
قال: " وليس من العدل القضاء على الثقة بالظن ", إنسان ثقة لا يمكن أن أستمع إلى رأيٍ أحاديٍ يطعن فيه، مكانته ملء العيون والأبصار، ملء القلوب، أنْ أسمح لإنسانٍ تافه أن يطعن به, وأصدقه هذه خيانة، لذلك أيها الأخوة هذه الآية قلَّما ننتبه إليها:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾
دققوا فيما سأقول: لك أخٌ كريمٌ جداً ملء سمعك وبصرك، تحبه حباً جماً، تثق بأخلاقه واستقامته, وعدالته, وعلمه, وجاءك إنسان يطعن فيه، ماذا تعمل؟ إن كان هذا الطعن لا يحرِّك فيك ساكناً، ولا تأبه له، وعددته كذباً، وتلفيقاً قذراً، ولم تلتفت له، لا شأن لك، ولا عليك إنْ لم تتابع الأمر, أما إذا اهتزت صورته عندك فيجب أن تزيل هذا، فإن بقيت ساكتاً وساكناً، ولم تذهب إليه، ولم تحاول تجلية الحقيقة فأنت قد اغتبته في قلبك وأنت لا تدري، وهذه كما سماها الإمام الغزالي غيبة القلب، هذا المجتمع المسلم الذي عليه أن يحمل هذه الرسالة إلى الآفاق، هذا المجتمع المسلم الذي وصفه النبي كأنه كالبنيان المرصوص، هذا المجتمع المسلم الذي هو كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
هذا المجتمع المسلم لا ينبغي أن يتمزق ولا ينبغي أن يُفتَّ في عضده، ولا ينبغي أن يكون أشلاء ممزقة، إذًا : " وليس من العدل القضاء على الثقة بالظن ", لا بدَّ من الدليل، انطلاقاً من هذه القاعدة نرى في القضاء الشرعي لو أن أحداً أقام دعوى على شخصيةٍ مرموقةٍ دينيةٍ، لا بدَّ من أن يدفع مبلغاً كبيراً جداً يعدُّ تأميناً على أنه تطاول على مقامٍ كبير، فإذا كانت دعواه باطلةً حوسب حساباً عسيراً، ليس كل إنسان بإمكانه أن يطعن في أشخاص أعلى منه .
يا أيها الأخوة, هؤلاء الذين يدعون إلى الله عزَّ وجل هؤلاء هم بركة المجتمعات الإسلامية، فإذا تعودنا في مجالسنا أن نطعن بهذا، وهذا، فمن بقي؟ والإنسان إذا شعر أنَّ كلَّ هؤلاء ليسوا كاملين ييئس، ويقع في حالة إحباط شديدة جداً، أنا لا أقول هذا من الهواء، في أي مجلس تقريباً يتندرون بأخطاء الدعاة إلى الله، هذا الداعي فعل كذا، وهذا الداعي فعل كذا، وهذا الداعي فعل كذا، هم غير معصومين، لكن لا ينبغي أن تأخذ هناتهم وأغلاطهم الصغيرة إذا وجدت, وأن تضخِّمها, وأن تجعلها مدار الحديث، لذلك أيها الأخوة الكرام:
" من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه في عقر بيته" .
أيها الأخوة, في هذا الأسبوع أحدُ الناس قال لي عن شخصٍ أحترمه، وأقدِّر فيه الإخلاص والاستقامة, قال لي كلاماً لا يليق به أبداً، نهرته، وقلت له: تأكَّد، وبقيت هذه القصة في نفسي أسبوعاً، إلى أن التقيت به مرةً ثانية، فلما ضيَّقت عليه، قال: لست متأكداً أنه هو الذي فعل هذا، إنسان آخر كان بهذا المسجد، قضية كبيرة جداً, قال تعالى:
﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾
عند المحك يعرف الرجال :
ويقول هذا الإمام الجليل: " في تقلُّب الأحوال عُلِم جواهر الرجال ", الحقيقة أنّ الإنسان لا يبدو على حقيقته إلا بتبدُّل الأحوال، حينما ينتقل من الصحة إلى المرض، من الغنى إلى الفقر، ومن الفقر إلى الغنى، من الضعف إلى القوة، ومن القوة إلى الضعف، تبدُّل هذه الأحوال هو الذي يكشف معادن الرجال, لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾
هذا هو الثبات، النبي عليه الصلاة والسلام كان مثلاً أعلى في الثبات على المبدأ، حسبكم قوله صلى الله عليه وسلم:
" والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ".
أنت مع مـن تتعامل؟ أنت تتعامل مـع خالق الكون، أنت تعاهد رب العالمين، أنت أعطيت العهد على أن تستقيم على أمره في المنشط والمكره، في السرَّاء والضراء، في الغنى والفقر، قبل الزواج وبعد الزواج، في القوة والضعف، في الصحة والمرض, قال تعالى:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾
واللهُ عزَّ وجل لا بدَّ أن يبتلي عبده المؤمن، لقوله تعالى:
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾
﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾
يجب أن تعتقد اعتقاداً قاطعاً أنه لا بدَّ أن تبتلَى، فإذا كنت فقيراً ابتُلِيت بالفقر، قد تصبح غنياً، وتبتلى بالغنى، إن كنت لا سمح الله مريضاً، فهذا المرض امتحانٌ لك، فإذا شفاك الله عزَّ وجل فامتحانك الجديد هو الصحة، أنت مبتلى وممتحن، بل إن الإنسان في حياته الدنيا ممتحنٌ مرتين: ممتحنٌ مرةً ببعض الحظوظ التي أكرمه الله بها، وممتحنٌ بحرمانه من بعض الحظوظ التي شاءت حكمة الله أن يحرمه منها، استمعوا إلى دعاء النبي عليه الصلاة والسلام:
" اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله عوناً لي فيما تحب، وما زويت عني ما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب " .
هل هناك حالةٌ ثالثة؟ إما أن تكون غنياً أو فقيراً، قوياً أو ضعيفاً، صحيحاً أو مريضاً، عندك أفضل زوجةٍ أو عندك أسوأ زوجة، عندك أولادٌ بررة أو أولادٌ عاقون, " فما رزقتني مما أحب "، يا رب اجعلْ هذا المال في طاعتك، اجعل نعمة الأمن في معرفتك، اجعل نعمة الصحة ضماناً لطاعتك، اجعل نعمة المال تقرُّباً إليك .
فلو أن الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان مالاً وفيراً لا شك أنه سينشغل به، يا رب هذا الوقت الذي كنت سأنشغل فيه بمالي، اجعلني أنشغل فيه بطاعتك، وكنت أدعو, وأقول: " اللهم كما أقررت أعينَ أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك ".
إذا كان عند الإنسان بيت اشتراه بعشرين ألفًا، واليوم أصبح بعشرين مليونًا، عنده أرض جرى عليها تنظيم، فتضاعفت مئة ضعف، يقول لك: لا أبيعها ولا بثلاثين مليون، ويشمخ أنفه إلى الأعلى، قرت عينه بهذه الأرض، أو قرت عينه بهذا البيت، أو قرَّت عينه بهذا المحل التجاري, " اللهم كما أقررت أعينَ أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك ".
مفسدة العقل :
وقال: " عُجْب المرء بنفسه أحد حُسَّاد عقله "، كنت أقول لكم دائماً: إن النجاح مطلق النجاح هو قمة الجبل، والطريق لهذه القمة طريقٌ شائك، وفيه عقبات، وفيه أكمات، وفيه وِهاد، وفيه أشواك، وفيه وحوش وحشرات، فليست بطولتك أن تصل إلى قمة النجاح، ولكن أن تبقى في القمة، لأنك إذا وصلتَ إلى القمة سوف تجد عشرات الطرق الزَّلقة، التي قد تهوي بالإنسان إلى الحضيض، لذلك قال تعالى:
﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً﴾
الدخول شيء والخروج شيء، مثلاً: قد أنشئُ مستشفى بنوايا طيبة جداً، خدمةً للبشرية المعذبة، خدمةً لهؤلاء الفقراء المحتاجين، سوف أجعل نصف المستشفى للفقراء المساكين، والله الدخول رائع، لكن إذا أنشئت هذه المستشفى، ورأيت الأموال الطائلة تصل إليك، ربما قسا قلبك، وتطلبُ من المرضى ما يوقعهم في أشد الأمراض من ضخامة المبلغ، قال تعالى:
﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً﴾
" عُجْب المرء بنفسه أحد حُسَّاد عقله "، حسد داخلي، وهناك حسد خارجي، الإنسان إذا أعجب برأيه عمي عن غيره .
كلمة حق أريد بها باطل :
ويقول هذا الإمام الجليل حينما سمع كلمة "لا حكم إلا الله" قال قولته الرائعة التي أصبحت مضرب المثل: " كلمة حقٍ أريد بها باطل ", أحياناً يدرك الإنسان بحاسته السادسة أن قضيته مع فلانٍ لا تحل عن طريق المحاكم، لا تحل إلا عن طريق الشيوخ، لأن القانون مع خصمه، لكن الشرع معه، يتوجه إلى بعض الشيوخ مِمَّن يمون على خصمه، يقول له: يا سيدي أنا أريد حكم الشرع، أنا أريد شيئاً يرضي الله عزَّ وجل، واللهِ هذه كلمة حق، لماذا؟ إذا كانت قضيتك تحل في المحاكم لا تلجأ إلى الشيوخ, الإنسان يتبع مصالحه، فإذا رآها عند القضاة وفي المحاكم توجَّه إليها، وإن رآها عند العلماء توجّه إليهم، فمثل هذا الكلام،" كلمة حقٍ أريد بها باطل "، وينبغي ألاّ تسكت على كلمةٍ حقٍ أريد بها باطل .
النبي عليه الصلاة والسلام حكم بين رجلين، فالذي حكم عليه وكان الحق يتلبسه خرج من عند النبي, وقال : حسبي الله ونعم الوكيل، النبي عليه الصلاة والسلام, قال:
" إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ, فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " .
فهل يمكن لطالب لا يدرس فيرسب؟ ثم يقول: يا أخي هكذا ترتيب ربي، أنا مستسلم لقضاء الله، هذه إرادة الله، هذه مشيئة الله، نقول له: دعك من هذا الكلام، هذه كلمة حقٍ أُريدَ بها باطل، لكن متى تقول: حسبي الله ونعم وكيل, إذا درس الطالبُ بأقصى ما عنده، ثم جاء مرضٌ حَالَ بينه وبين أداء الامتحان، الآن تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، لذلك الناس يستخدمون هذه الأقوال الإسلامية القرآنية النبوية دائماً في غير موضعها، مثلاً: إذا أراد ألاّ يدفع ما عليه, يقول لك: أدفعُها إن شاء الله، إذا أراد ألاّ يحضر هذا الموعد, يقول لك: إن شاء الله سآتي، أنا أقول له: أريد إن شاء الله إسلامية، لأنك إذا كنت مصمماً على أن تأتي في أعلى درجات التصميم, تقول: إن شاء الله، لقوله تعالى:
﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً ﴾
أمَّا أن تستخدم هذه الكلمة للتنصل, والتهرب من حضور هذا اللقاء، أو من دفْعِ هذا المبلغ فهذا مكر وخداع .
الأجانـب أحياناً يتعاملون مع أُناس سيئين، لا يمثلون هذا الدين، فيسيئون للدين، مع أنّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام, يقول:
" أنت على ثغرةٍ من ثُغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك " .
فيأخذون على بعض المسلمين المقصرين ثلاث كلمات، " معلش، وبكرة، وإن شاء الله "، هم يعتقدون أن هذه الكلمات هي سبب تأخُّر المسلمين، التأجيل، وعدم الإعداد الكافي، وعدم المبالاة، أما إن شاء الله الإسلامية، أي أنا سأحضر بأعلى درجـات الـتصميم، قـال:
﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾
روحوا القلوب تعى الذكر :
يقول هذا الإمام الجليل: " إن هذه القلوب تمَل كما تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة ", فالأب أحياناً يكون عبوساً قمطريراً، لكنه يمكن أنْ يكون مرحًا، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل بيتَه بساماً ضحاكًا، وكان يُرْكِب الحسنَ والحسينَ على ظهره, ويقول:
" نعم الجملُ جملُكما " .
فشخصيته في البيت شخصية محببة جداً، أما أنْ يكونَ دائماً في هيبة وسيطرة، بوجه ليس فيه أيُّ تعبير، فليس هذا هو المسلم .
النبي عليه الصلاة والسلام، كان فكهاً مع أهله ومع أصحابه، كان يداعبهم ويمزح معهم ، ويسأل عنهم ويشجعهم، ويثني عليهم، ويتواضع لهم، فهذه أخلاق النبي، وينبغي أن نتخلق بأخـلاقه, " إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة ", ومن طرائف الحكمة, طرفة أدبية علمية، أحياناً من حين إلى آخر ففيها تجديد النشاط، والمعلم الناجح هو الذي يستطيع أن يلقي فكاهةً أدبيةً تنشط الطلاب, وتجدد فيهم العزيمة، هذا كلام سيدنا علي .
رزقك موصول إليك :
ويقول هذا الإمام الجليل: " يا ابن آدم ما كسبت فوق قوتِك فأنت فيه خازنٌ لغيرك " اسمعوا هذه الكلمة, هل تعلم ما هو رزقك؟ لو تملك أموالاً لا تأكلها النيران كما يقولون، لا تعدُّ ولا تحصى، لو تملك ألوف الملايين من العملات الصعبة، رزقك هو الطعام الذي تأكله، والثياب التي تلبسها، والبيت الذي تسكنه، والزوجة التي قسمها الله لك، وما سوى ذلك سماه القرآن جمعاً، فقال تعالى:
﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾
ورحمة ربك خيرٌ مما يجمعون، ومشكلة الفائض عن حاجاتك تحاسب فيه مرتين, كيف اكتسبته؟ وكيف أنفقته؟ وأنت في الحقيقة لم تنتفع به إطلاقاً، ربما ضيعت من أجل كسبه أثمن أوقاتك، ربما ضيعت من أجل كسبه ثمرة أتعابك، ربما ضيعت من أجل كسبه رأس مالك الحقيقـي وهو الوقت، لذلك هؤلاء الذين ينصبّون على الدنيا, وينسون من أجلها كلَّ شيء هؤلاء مقامرون ومغامرون، فكل مكتسباتهم في نبض القلب، فإذا توقف نبض القلب تحولت كل هذه الأموال إلى غيرهم، لذلك يقول هذا الإمام الجليل: " يابن آدم ما كسبت فوق قوتِك فأنت فيه خازنٌ لغيرك " .
ما أكثر العبر وما أقل المعتبرين، أحياناً تجد إنسانًا توفَّاه الله، ترك ثروة طائلة لعله حصَّلها بالحرام أو بالحلال، لكن تركها لغيره، ولهذا ورد في الحديث الصحيح:
" إن أندم الناس رجلٌ دخل ورثته بماله الجنة ودخل هو بماله النار " .
هناك إنسان ترك ثمانمئة مليون جمعها من دور القمار ودور اللهو، وهو على فراش الموت طلب أحد العلماء، قال له: ماذا أفعل؟ قال له: واللهِ لو أنفقتَها كلّها في سبيل الله ما نجوتَ من عذاب الله، وأنا ناصحٌ لك، يا أيها الأخوة الكرام، المؤمن العاقل يعمل لهذه الساعة التي لا بدَّ منها، ساعة اللقاء، فالعاقل لا يتحرك حركةً، ولا يتكلم كلمةً، ولا يعطي شيئاً ولا يمنع شيئاً، ولا يصل، ولا يقطع قبل أن يتصور أنه بين يدي الله عزَّ وجل، والله جل جلاله, يسأل: لِمَ فعلت؟ ولمَ لمْ تفعل؟ .
ذات مرة كان أحد الأخوة يعمل في وظيفة، وبإمكانه أنْ يوقع أشد الأذى بالناس، لو كتب ضبطًا بحق أحد الناس يُحبَس هذا بسببه شهرين بسجن عدرا، قال لي: انصحني، قلت له: أكتب ما شئت من هذه الضبوط، وأودع ما شئت من الناس في هذه السجون، فقال لي: هذه نصيحتــك, قلت: انتظر، ولكن إذا كنت بطلاً فهيِّئْ لربك عن كل ضبطٍ جوابًا، إنْ كان لديك الجواب فلا مانع ، لكن إنسانًا يأخذ دابةً ميتةً مدهوسةً في الطريق، ويجعلها طعاماً يبيعه لهؤلاء الناس على طرق السفر، فهذا لا ينبغي أنْ تسكت عنه، وأنْ تجد إنساناً يبيع لحماً أصله من لحم القطط, فهذا لا ينبغي أن تسكت عنه، أنا أعطيك صلاحيَّات، لكن هيِّئْ لكل ضبطٍ تكتبه جواباً لله عزَّ وجل، هذا الكلام أقولــه لنفسي ولكم، افعل ما تشاء، وفي حديث رائع عن أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةُ قَالَ, قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحْ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ ".
يفهمه الناس فهماً آخر، له معنى قد لا يخطر على بال الناس، يعني هذا العمل إن لم تستح به أمام الله فافعله ولا تسأل، ولا تبالي بكلام الناس، فأنت هيِّئْ جوابًا, لماذا طلقت؟ لماذا نظرت؟ لماذا غضبت؟ لماذا أعطيت؟ لماذا منعت؟ إذًا: " يا ابن آدم ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازنٌ لغيرك " .
رسالة للدعاة :
هذا حديث خاص بالدعاة, قال: " إن للقلوب شهوةً وإقبالاً وإدباراً، فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها ", كيف؟ كل واحد منا شاء أم أبى يوجد عنده مطالب أساسية، كل إنسان يحب وجوده، يحب سلامة وجوده، وألاّ يكون مريضًا، يحب أن يكون غنيًّا، ليس غنًى يكفي بل ليثري، يحب أن يعيش تسعين عاماً، ويُسَرُّ بالأعمار الطويلة، فكل إنسان مفطور على حب وجوده, وكمال وجوده, وسلامة وجوده, واستمرار وجوده، هذه حاجة عند الإنسان، أيّ إنسان .
كل إنسان عنده حاجة للأمن، يكون مطمئنًا، يخاف أن يتعرّض لمقلقات، حاجة الإنسان إلى الصحة، حاجته إلى الكفاية، حاجته إلى زوجة صالحة، هذا الكلام للشباب، حاجته إلى أولادٍ أبرار، حاجته إلى التوفيق في عمله، حاجته إلى حياةٍ هادئةًٍ مطمئنة، هذه الحاجات أنت كداعية بيِّن للناس, أنه:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾
إذا أنت حاولت أنْ تلبِّيَ حاجات الإنسان الأساسية عن طريق الدين فأنت داعيةٌ ناجح، فهذا المدعو إنسان يخاف، وهو قلِقٌ على صحته، قلقٌ على ماله، قلقٌ على مستقبله، على أولاده، على زوجته، وهذا شيء طبيعي، لأن القلق والضعف شيءٌ خِلْقي في أصل الإنسان، لقوله تعالى:
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ﴾
هكذا خلق الإنسان, قال تعالى:
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾
المصلي ناجٍ من الهلع والجزع، فإذا أردت أن تدعو إلى الله عزَّ وجل، فاستخدم حاجة الإنسان الأساسية, حاجته إلى الكفاية، حاجته إلى الأمن، حاجته إلى السلامة، حاجته إلى الصحة، حاجته إلى التوفيق، حاجته إلى التيسير، إذا بيَّنت له الآيات التي تؤكد أن كل هذه الحاجات مقضية في ظل الدين فيقبل على هذا الدين، فلذلك معالجة الموضوعات في الدعوة إلى الله أمْرٌ خطير جداً
هناك موضوعات منفرة، فمثلاً معالجة موضوع عتق العبيد في زماننا لا مكان له، أين العبيد؟ لا وجود لعبيد أفراد، ولكن هناك شعوب مستعبَدة، فموضوعات كهذه الموضوعات لا تقدِّم ولا تؤخِّر، حكم الصلاة داخل الكعبة، من يستطيع الوصول إلى الداخل الآن؟ اذهبْ وحجَّ أو اعتمر، أيسمح لك أن تدخل الكعبة؟ فهذه موضوعات بعيدة عن واقعنا، لكن الداعية الصادق هو الذي يبحث عن موضوعات تمس شغاف القلب، يضع يده على جرح الناس، يضع أصابعه على أوتار قلوبهم، فهذا كلامٌ جليل: " إن للقلوب شهوةً وإقبالاً وإدباراً، فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها "
الإنسان قد يزور مريضًا، هذا المريض مرهق، ويكاد يهلك، كله آذان صاغية، والإنسان حينما يتعرّض لمشكلة، أو لمصيبة فكلُّه آذان صاغية، فشهوته للشفاء تجعله يصغي، استمعوا إلى هذه الآية:
﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾
أي علامة إصغاء القلب السلوك، توبتك دليل إصغاء قلبك إلى الله عزَّ وجل .
الحق واحد :
ولبعد نظر هذا الإمام الجليل, يقول: " ما اختلفت دعوتان إلا كانت إحداهما ضلالة " مستحيل, لأن الحق طريق مستقيم فلو أحضرنا ألف خط مستقيم لا بدَّ من أن تنطبق هذه المستقيمات كلها على بعضها بعضاً، بين نقطتين لا يمر إلا خطٌ مستقيمٌ واحد، والدليل:
﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
ولا تتبعوا السبل, كلمة السبل صيغة جمع, فتفرق بكم عن سبيله, قال تعالى:
﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
يخرجهم من الظلمات إلى النور, الظلمات صيغة جمع, كلمة النور مفرد، الحق واحد, والدليل :
﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾
الحق واحد في العالم كله، لأن الله هو الحق، فالحق لا يتعدد, ولا يتنوَّع، الحق موحد، الباطل منوَّع, لهذا: " ما اختلفت دعوتان إلا كانت إحداهما ضلالة " .
من أقواله أيضاً :
قال: " إذا هِبْتَ أمراً فقع فيه، فإن شدة توقِّيه أعظم مما تخاف منه ", هذا ينطبق على قول بعض الحكماء: " توقع المصيبة مصيبةٌ أكبر منها "، إذا كان الإنسان خائفًا من شيء، فهذا الخوفُ يدمِّره، فإذا اقتحمه انتهى الأمر، فهذا الخوف الشديد هو حجاب بين العبد وربه، كل شيء تخافه استعن بالله واقتحمه اقتحاماً .
وقال: " من استقبل وجوه الآراء عرف مكان الخطأ ", أنا أقول لكم: أخطر شيء يصيب الإنسان أن يعزل نفسه عن المجتمع، فإذا عزل نفسه عن المجتمع بنى أوهاماً وأوهاماً، فكلما وسَّع الإنسان دائرة اتصالاته كلما عرف حجمه وموقعه، تصور إنسانًا عنده ماكينة تريكو مثلاً، قال لك : هذه أعظم ماكينة في العالم، وهي ماكينـة موديل ( 49 ) هذا يكفيه أن يدخل إلى معمل أحدث فيعرف حجم آلته، كلما وسع اتصالاته واطلاعه ومعرفته، يعرف حجمه الحقيقي، والإنسان لا يرقى إلا إذا انطلق من حجمه الحقيقي .
كان الإنسان يقدم في الإذاعة برامج أدبية وثقافية، أساس هذه البرامج أن يطلب مقابلة مع شخصية مرموقة أدبية أو علمية، فكان مقدِّم هذه البرامج يعكف أشهراً طويلةً على قراءة إنتاج هذه الأديب، وعلى معرفة المآخذ والمثالب, وكان يقرأ كلَّ ما قيل عنه، ورأي النقَّاد فيه حتى يصبح قريباً من مستوى الناقد، يلتقي به ويسأله أسئلةً كثيرة، فإذا بهذا الإنسان الكبير يصغر في هذا اللقاء، فلما عوتب فيما يفعله, قال: إنني أحب أن أعيد بعض الناس إلى حجمهم الحقيقي .
أحياناً بعض الناس يملك قدرة على أن يبدو بحجمٍ أكبر من حجمه الحقيقي، فالإنسان إذا أراد أن يتقدَّم يجب أن يبني تقدمه على معرفة حجمه الحقيقي، والإنسان كلما قرأ سيَر كبارِ العلماء المخلصين العاملين شعر بضآلته، وشعوره بضآلته سبب رقيِّه، يقول سيدنا الشافعي: " كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي " .
الإنسان كلما اطلع على أبطال في هذا الدين، وكلما قرأ سير العلماء المخلصين العاملين عرف حجمه، أما إذا عزل نفسه عن كل من حوله يصيبه داء اسمه: تضخُّم الشخصية، فلذلك كلام الإمام علي رائع جداً: " من استقبل وجوه الآراء عرف مكان الخطأ ", والنبي عليه الصلاة والسلام له موقف لا أشبع من ترداده وتكراره،
" لما الحباب بن المنذر سأله بأدبٍ جم، قال: يا رسول الله، أهذا الموقع الذي نزلنا به موقعٌ جاءك بالوحي، أم بالرأي والمشورة؟ قال له: بالرأي والمشورة، قال له: إذًا ليس بموقع، فسأله النبي عن موقعٍ مناسبٍ فدلَّه عليه، فأمر النبي أن ينتقل الجنود إلى هذا الموقع " .
وقف هذا الموقف الكامل ليكون قدوةً لكل من يأتي بعده من العلماء والأمراء .
إذا نصحك شخصٌ بإخلاص، إياك أن تستكبـر على نصيحتـه، بل أصغِ إليه، هذا الذي ينصحك هو الذي يرفعك، وهذا الذي يمدحك هو الذي يقعدك، وسيدنا عمر, يقول: " ما أهدى إلي أحدٌ هديةً أثمن مِن أنْ يهديَ إليّ عيوبي ", الإنسان سهل أن يجامل الآخرين، المجاملة سهلة والمديح سهل، والإنسان الذي يمدح يرتاح من العيّ، لكن الإخلاص يقتضي أن تنصح، وأن تغار على هذا الدين .
عاقبة الذنب :
وقال: " ترك الذنب أهون من طلب المعونة ", سبحان الله مرض الإيدز الذي حيَّر العلماء، والذي دمَّر العالّم الحديث، تمنيت أن أقرأ مقالة واحدة في العالم كله عن دعوةٍ إلى العفة، لأنها سبيل الوقاية الوحيدة من هذا المرض، وما أكثر الدعوات إلى البحث عن مصل مضاد لهذا المرض من غير فائدة: " ترك الذنب أهون من طلب المعونة ".
مثلاً مدينة تشرب مياهاً قذرة، فشت فيها الأوجاع، والوباء، والأمراض، فماذا نفعل؟ بدل أنْ نمنع هذه المياه الملوثة استقدمنا الأطباء، والمستشفيات، وأصحاب الاختصاصات، والمخابر، هذا فعْل أهل الجهالة، لكنَّ الأولى أن توقف هذه المياه الملوثة، وينتهي كلُّ شيء، هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾
وصفُ ربنا عزَّ وجل جامع مانع، الكفار من شأنهم أنهم يصدون عن سبيل الله, ويبغونها عِوجا، والأمور دائماً معوجة .
حكم شتى :
وقال: " وكم من أكلةٍ منعت أكلات ", الإنسان الحكيم لا ينهِي دعوته بكلمة، هناك كلمات لا تقدم ولا تؤخر تنهي دعوة بأكملها، ليس من الحكمة أن تقول كلمةً لا ثانية لها، الحكمة أن تستمر الدعوة إلى الله عزَّ وجل، الحكمة أن تقول قولاً مناسباً في الوقت المناسب، بالقدر المناسب للشخص المناسب هذه حكمة, قال تعالى:
﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾
وهذا كلامٌ طيب: " الإعجاب يمنع الازدياد "، الإنسان حينما تعجبه نفسه لا يزداد لا علماً ولا قرباً، أما إذا اتهم نفسه يزداد علماً وقرباً، وانظرْ إلى هذا التابعي الجليل الذي قال: " التقيت بأربعين صحابياً ما منهم واحدٌ إلا وهو يظن نفسه منافقاً " .
ما خاب من استشار :
وقال: " من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها ", من الذي قيل له : وشاورهم في الأمر؟ قال تعالى:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾
من هو؟ النبي عليه الصلاة والسلام هو قمة العلم، وقمة الحكمة، وقمة الاتصال بالله عزَّ وجل، علمه من الله لا ينطق عن الهوى, ومع ذلك قال له:
﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
من أنت إذًا؟ إذا كان هذا الأمر موجهاً للنبي عليه الصلاة والسلام، " من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها "، لا تتمكن أن تدخل عند طبيب إلا بمبلغ، لكن بإمكانك تطرق باب أي إنسان تثق بعلمه وإخلاصه وأن تسأله والجواب بدون مقابل، فقط الدين مبذول بلا ثمن، الدين وحده في المساجد, في البيوت, كل الدعاة إلى الله عزَّ وجل تسألهم فيجيبون، فأنت ماذا يمنعك مِن أن تستعير عقول الرجال، وأن تستعير خبرتهم الطويلة، ومعرفتهم بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ومعرفتهم بأحكام الفقه؟ .
اقطع الإساءة بالإحسان :
ويقول هذا الإمام الجليل: " عاتب أخاك بالإحسان إليه, واردد شره بالإنعام عليه ", مرة عليه الصلاة والسلام, قال:
من يقطع لسان هذا؟ .
إنسان تطاول على النبي، صحابيٌ فهم أن قطع اللسان يحتاج إلى مقص، وصحابيٌ آخر فهِم قطع لسانه أن تحسن إليه، وفي أيامنا قد يكون لك جار شرير، هذا الجار الشرير قدِّم له هديةً يسكت، تملك قلبه بهذه الهدية، وسائل الإكرام أسرع وأنجع من وسائل العنف والتهديد، كن محسناً، أشد الناس شراً يلين بالإحسان إليه: " عاتب أخاك بالإحسان إليه, واردد شره بالإنعام عليه ", والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾
اغتنم الفرص فإن العمر قصير :
انظروا إلى هذه الكلمة التي تفيدُ مُضيّ الزمن، وإنْ مضى فلن يعود، قال: " لكل مقبلٍ إدبار، وما أدبر كأن لم يكن ", فأنت أحياناً تستقبـل الشتاء، فيأتي الشتاء ويمضي الشتاء، وكأن الشتاء لم يكن، تستقبل رمضان، فيأتي رمضان، ويمضي رمضان، وكأن رمضان لم يكن، تستقبل العيد فيأتي العيد، ويمضي العيد، وكأن العيد لم يكن، تنتظر أن يكبر ابنك، فيكبر ابنك، وتزوجه، وكأن هموم الزواج لم تكن، وهكذا الزمن يمضي سريعاً، فلذلك ربنا عزَّ وجل قال:
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
معنى فاستبقوا: أي أنتم في زمن هدنة، أنتم في زمن محدود، وإن السير بكم لسريع، ولا بد من وقتٍ ينتهي فيه اختياركم، وينتهي تكليفكم، وتنتهي آجالكم وتختم أعمالكم, قال تعالى:
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
وفي الدرس القادم إن شاء الله هناك وصيةٌ جامعةٌ مانعةٌ لهذا الإمام الجليل أرجو الله أن نختم بها دروس الإمام سيدنا عليٍ كرم الله وجهه .